أوامر الرؤساء وحدود الطاعة في ضوء القانون الجنائي الدولي
أولاً: ماهية الطاعة بين الرئيس والمرؤوس
يُشكّل مبدأ طاعة المرؤوس للرئيس أحد الأعمدة التنظيمية في المؤسسات العسكرية والأمنية والإدارية، غير أن هذا المبدأ لا يُعدّ مطلقًا، بل يحدّه القانون، خاصة حين تتقاطع الأوامر مع قواعد المسؤولية الجنائية الدولية أو حقوق الإنسان. وفي هذا السياق، أصبح من الضروري التفرقة بين الطاعة المشروعة والطاعة العمياء، وبين تنفيذ الأوامر وبين المسؤولية عن نتائجها، خصوصًا في ضوء تطور القواعد الدولية، وعلى رأسها المادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
ثانيًا: التأسيس القانوني لمبدأ طاعة الرؤساء
يستند مبدأ الطاعة إلى القاعدة الإدارية الأساسية بأن الرئيس مسؤول عن حسن سير العمل، وله إصدار الأوامر والتوجيهات للمرؤوسين الذين يُلزمهم القانون بتنفيذها، ما لم تكن تلك الأوامر مخالفة صريحة للقانون. وتكمن الحكمة من هذه القاعدة في ضرورة حفظ النظام الوظيفي وضمان استقرار البُنى الإدارية والعسكرية، ولكنها لا تبرر تنفيذ الأوامر غير المشروعة.
1. النظام العام في الوظيفة العامة
تُقر معظم القوانين الوظيفية في الدول (كقانون الخدمة المدنية أو قانون الموارد البشرية او قانون العمل او قان ن الموظفين ) بضرورة احترام الرئيس وطاعة المرؤوس لرئيسه، شريطة ألا تتعارض الأوامر مع القوانين أو المبادئ العامة.
2. الطبيعة القانونية للأوامر الإدارية
التمييز بين الأمر القانوني والأمر غير المشروع مسألة دقيقة، وتتعلق بمضمون الأمر وظروف إصداره. فإذا صدر أمر يتضمن ارتكاب فعل مجرم قانونًا، فإن على الموظف الامتناع عن تنفيذه، ولا يُعفى من المسؤولية الجنائية بمجرد صدوره من رئيسه.
ثالثًا: المسؤولية الجنائية عن تنفيذ الأوامر غير المشروعة
1. المادة (33) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
تنص المادة على أن تنفيذ الأوامر لا يُعفي من المسؤولية ما لم يتوافر:
التزام قانوني بالطاعة،
عدم علم المتهم بأن الأمر غير مشروع،
وعدم وضوح عدم مشروعيته.
ويُستثنى من ذلك جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، إذ يُفترض العلم بعدم مشروعيتها لخطورتها الفائقة.
2. المادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
تشكل هذه المادة تطورًا نوعيًا، حيث حمّلت القادة العسكريين والرؤساء المدنيين المسؤولية عن الأفعال التي يرتكبها مرؤوسوهم، متى:
علموا بها أو كان ينبغي لهم أن يعلموا بها،
وكان لديهم القدرة على منعها أو معاقبة مرتكبيها، ولم يفعلوا.
وهنا تتحقق المسؤولية عن الإهمال، أي التقاعس عن اتخاذ التدابير الوقائية، حتى دون صدور أمر مباشر بارتكاب الجريمة.
رابعا" : حدود الطاعة المشروعة
1. مشروعية الأمر
يتوجب على المرؤوس أن يُعمل ضميره المهني والقانوني، فإذا كان الأمر مشوبًا بعيب جسيم (جريمة أو مخالفة صريحة للقانون)، وجب الامتناع عن تنفيذه وإبلاغ الجهة المختصة.
2. السلطة التقديرية للمرؤوس
في الأنظمة الحديثة، يُفترض في الموظف الإداري أو العسكري أن يتمتع بالحد الأدنى من التقدير القانوني للأوامر، وأن لا يتحول إلى أداة تنفيذ عمياء.
نختم بالقول بإن مبدأ طاعة الرؤساء ليس رخصة لإرتكاب الجرائم أو مخالفة القانون، بل يجب أن يظل محصورًا في حدود المشروعية. وتُعد المادة (28) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية نموذجًا متقدمًا لفرض الرقابة على القادة والرؤساء. وينبغي على الدول الخليجية تطوير قوانينها لتضمين هذا المبدأ بشكل صريح في أنظمتها الجنائية والإدارية، مع وضع دليل وطني لأخلاقيات الوظيفة العامة يشمل حالات رفض الأوامر غير المشروعة.
▪︎بقلم المستشار القانوني الدكتور ناجي سابق
المحكم ناجي سابق# الدكتور ناجي سابق # ناجي سابق# اوامر الرؤساء# حدود الطاعة #القانون الدولي الجنائي# المحكمة الدولية