العدل والعدالة في الميزان القانوني

بقلم : د. ناجي سابق
عدد الزيارات: 6

العدل والعدالة في الميزان القانوني

العدل والعدالة في الميزان القانوني

يمثل التمييز بين مفهومي العدل (Justice) والعدالة (Equity) حجر زاوية في الفلسفة القانونية والفقه الحديث، حيث يعود جذوره إلى فلاسفة اليونان العظام، لاسيما أرسطو. هذا التمييز ليس مجرد تفريق لفظي، بل يعكس ثنائية أساسية في فهم دور القانون وطبيعة تحقيق الإنصاف في المجتمع من خلال ثنائية الشكل والمضمون، العمومية والخصوصية، التشدد والمرونة.

● أولاً: العدل (Justice) - المساواة الشكلية وسيادة القانون
*. المعنى الجوهري: يرتبط العدل ارتباطًا وثيقًا بمبدأ المساواة أمام القانون وبفكرة سيادة القاعدة القانونية العامة المجردة. فهو يعني تطبيق القانون نفسه، بنفس الطريقة، على جميع الأفراد الذين يتساوون في المركز القانوني ذاته، تحقيقًا للغرض والهدف الذي وُضعت من أجله القاعدة القانونية وهو بالتالي يطبق على جميع الناس عامة دون النظر الى الاختلافات الفردية والحالات الانسانية الخاصة.
*. الركائز الأساسية:
    - العمومية والتجريد: القاعدة القانونية موضوعة لتنطبق على فئة غير محددة من الأشخاص أو الوقائع في حالات متشابهة، دون تحديد لأشخاص بعينهم فهي عامة مجردة تخاطب الناس جميعا"
   . *المساواة الشكلية: "المثل يعامل بمثله، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية". التطبيق المتساوي للقاعدة على من تتوفر فيهم شروطها هو جوهر العدل الشكلي وبالتالي ليسةهناك من استثناءات او رحمة في التطبيق فعموم الناس مخاطبين بنفس القواعد
    .*النزاهة وعدم المحاباة: تطبيق القانون دون تمييز أو محاباة لأشخاص أو فئات.
   .*الحياد الظاهر:
 يعتد العدل القانوني بالظاهر والوضع العام الموضوعي للمخاطبين بأحكامه، دون الخوض في الظروف الذاتية أو الشخصية.
عليه فإن اوضح مثال على العدل وتطبيقاته، وفقًا لمبدأ العدل الشكلي، لا فرق في العقوبة المقررة للسرقة بين امرأة تسرق طعامًا لإطعام أطفالها الجياع وبين شخص يسرق لتحقيق رفاهية لشخصية أو إشباع رغباته. القانون ينظر إلى الفعل الجرمي (السرقة) في ظاهره المجرد ويطبق العقوبة المقررة له بالتساوي، بغض النظر عن البواعث الشخصية خلف الفعل او النية او القصد الجرمي والخصوصيات الموجودة. وبالتالي يمكن ان يؤدي ذلك الى الظلم تحت عنوان تحقيق المساواة في التطبيق بمعناها الشكلي. وقد يؤدي ايضا في بعض الأحيان إلى نتائج قاسية أو غير عادلة (Injustices) للحالات الفردية التي تختلف ظروفها اختلافًا جوهريًا عن الحالة النموذجية التي صُممت القاعدة لها. وهنا تصبح الحالة الفردية "ضحية للعدل الشكلي" رغم التزامه الصارم بمبدأ المساواة.
من هنا جاءت الآية القرآنية الكريمة في سورة النساء (58) "وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" 

● ثانياً: العدالة (Equity) - الإنصاف الجوهري وتصحيح الجمود
* المعنى الجوهري: تفيد العدالة معنى الإنصاف (Equity) والملاءمة والعدل الخاص المبني على روح القانون ومقاصده الانسانية الرحيمة وهي بالتالي عدالة الله في خلقه . 

* *الأساس الفلسفي عند (أرسطو): 
* أقر أرسطو بأهمية العدل العام (المساواة الشكلية) الذي توفره القاعدة القانونية، ولكنه أدرك محدوديتها. فقد لاحظ وجود "حالات مستعصية" (Hard Cases) حيث يؤدي التطبيق الحرفي والصارم للقانون إلى نتائج ظالمة (Unjust) أو غير مقبولة أخلاقيًا ومنطقيًا رغم صحتها شكلًا. ومن هنا طرح فكرة العدالة "العدل الخاص" أو "الإنصاف" لتصحيح جمود القانون العام.
*. وظيفة العدالة (الإنصاف):
    اي التخفيف من حدة العمومية وتوفير معاملة خاصة للحالات الفردية الاستثنائية التي لا تتناسب مع القوالب الجامدة للقواعد العامة.
    .*تصحيح الظلم الناتج عن التطبيق الصارم للعدل : وهذا ما يمنع النتائج القاسية أو غير العادلة التي قد تترتب على التطبيق الحرفي للقانون في ظروف معينة وبالتالي فهو إعادة التوازن والتناسب وسد الثغرات التي قد تتركها القواعد العامة المجردة، وإيجاد حلول أكثر توافقًا مع روح القانون ومقاصده العليا التي غالبًا ما تكون تحقيق العدالة الرحيمة عدالة الله في خلقه.
  
إن العدالة تقتضي تحقيق المساواة الجوهرية والسعي نحو مساواة حقيقية في النتائج وليس فقط في الإجراءات، عن طريق مراعاة الفروق الواقعية الجوهرية بين الحالات ويكون ذلك من خلال اليات تحقيق العدالة (الإنصاف) المبني على سلطة القاضي التقديرية وصلاحيته وسلطته في تفسير القانون أو تطبيقه بشكل مرن يراعي ظروف القضية الخاصة ويطبق عليها مبادئ العدالة والرحمة والانصاف وعدم استغلال السلطة والقسوة في المعاملة لأن الرحمة تبقى اهم واقوى من اي قانون وضعي-وضعه الانسان- في العالم .
فالرحمة فوق القانون والعفو عند المقدرة في حالات انسانية خاصة جدا" تقدر بقدرها وفقا" للسلطة التقديرية للقاضي اثناء تحديد المسؤوليات تمهيدا" للحكم. ويبقى المتهم بريء حتى تتبث إدانته ولا جريمة ولا عقوبة بدون نص.
ويجب على القاضي الانسان ان يتذكر انسانيته ورحمة الله بقلبه ويعرف انه" يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء. "

    ● ثالثاً: التكامل الضروري بين العدل والعدالة
رغم التمييز الواضح بينهما، فإن العدل والعدالة ليسا نقيضين، بل هما وجهان متكاملان لنظام قانوني سليم ومتوازن
1. العدل (الشكلي) هو الأساس: يضمن الاستقرار، واليقين القانوني، والمساواة الأساسية، ومنع التعسف والتمييز. فهو العمود الفقري لأي نظام قانوني.
2. العدالة (الجوهرية/الإنصاف) هي الضمير التصحيحي الذي يمنح النظام المرونة اللازمة للتكيف مع تعقيدات الواقع البشري وتفرد الحالات، وتمنع تحول القانون إلى أداة للظلم تحت شعار المساواة الشكلية. وهي تضمن أن يظل القانون وسيلة لتحقيق غاية العدل الحقيقي 
3. التوازن هو الجوهر : فالإفراط في الشكلية (العدل فقط) يقود إلى جمود وظلم. والإفراط في المرونة والذاتية (العدالة فقط) يقود إلى عدم اليقين القانوني وعدم الردع ويبقى النظام القانوني الأمثل هو الذي يوفق بين سيادة القانون العام المجرد (العدل) وبين آليات تصحيحية رشيدة تسمح بالتدخل لتحقيق الإنصاف (العدالة) في الحالات الانسانية الخاصة التي تستدعي ذلك.
 
المستشار الدكتور ناجي سابق 
مستشار قانوني ومحكم دولي
العدل والعدالة# العدل# العظالة# المحكم ناجي سابق# الدكتور ناجي سابق# الرحمة والقانون#


قنوات التواصل

مسقط ، سلطنة عمان

naji.sabek@hotmail.com

+9613606501