ضمانات العدالة الإجرائية في التحكيم: دراسة في مبدأ المساواة وحق الدفاع
بقلم:
المستشار الدكتور ناجي سابق
مستشار قانوني ومحكم دولي
يعد التحكيم وسيلة بديلة لتسوية المنازعات تنطوي على قدر كبير من المرونة والخصوصية، لكنه في الوقت ذاته يجب أن يستوفي الحد الأدنى من الضمانات التي تحقق العدالة الإجرائية للطرفين. ومن أبرز هذه الضمانات: حق الدفاع، مبدأ المساواة بين الأطراف، تكافؤ الفرص، الالتزام باتفاق الطرفين، ومراعاة القانون الواجب التطبيق. تمثل هذه المبادئ جوهر العدالة الإجرائية وهي أساس شرعية وفعالية التحكيم كوسيلة لتسوية النزاعات، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
أولاً: حق الدفاع في التحكيم
يعد حق الدفاع من المبادئ الدستورية العامة، وهو لا يقتصر على القضاء الرسمي فحسب، بل يمتد إلى جميع صور القضاء الخاص ومنها التحكيم. ويقصد به تمكين كل طرف في الخصومة من عرض دعواه، وتقديم أدلته، والرد على ما يقدمه الطرف الآخر من دفوع أو مستندات.
وقد أكدت معظم قوانين التحكيم، ومنها قانون التحكيم العُماني (الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 47/1997 وتعديلاته)، على هذا الحق، حيث نصت المادة (26) منه على أن "يعامل طرفا التحكيم على قدم المساواة ويُمنح كل منهما الفرصة الكاملة لعرض قضيته".
ثانياً: المساواة في المعاملة بين الأطراف
يعد مبدأ المساواة من أبرز الضمانات التي تحكم الإجراءات التحكيمية، ويقضي بأن يتمتع كل طرف بنفس الحقوق، دون تمييز أو انحياز، سواء من قبل هيئة التحكيم أو الطرف الآخر. ويشمل ذلك المساواة في الأجل الممنوح لتقديم المذكرات، وفي كافة الاجراءات، وغيرها من أوجه المعاملة المرتبطة بالنزاع وذلك تحت رؤية وتقدير سلطة الهيئة .
ويترتب على الإخلال بهذا المبدأ احتمال بطلان الحكم التحكيمي بسبب الإخلال بحقوق الدفاع، خاصة إذا ثبت أن طرفًا ما قد مُنِع من ممارسة حقه بصورة عادلة ومتكافئة.
ثالثاً: تكافؤ الفرص في عرض الدعوى وتقديم الطلبات
يتفرع عن مبدأ المساواة مبدأ تكافؤ الفرص، ويقضي هذا المبدأ بضرورة منح كلا الطرفين فرصة متساوية لعرض دعواه وتقديم أدلته وطلباته، والتعقيب على ما يقدمه الطرف الآخر. فليس من العدالة أن يُمنح أحد الطرفين أجلاً لتقديم مذكرة ما، في حين يُرفض منح الأجل للطرف الآخر.
ويُراعى في ذلك طبيعة النزاع ومدى تعقيده والظروف المحيطة بالأطراف، بما يحقق التوازن الإجرائي دون الإخلال بسير الدعوى أو المماطلة.
رابعاً: المحاكمة العادلة في التحكيم
رغم أن التحكيم يختلف عن القضاء الرسمي في طبيعته وإجراءاته، إلا أنه لا يمكن أن يُفهم كإجراء تعسفي بعيد عن معايير العدالة. فالتحكيم يجب أن يحقق محاكمة عادلة تتوافر فيها عناصر الحياد، والاستقلال، وسرية الإجراءات والجلسات
وتُعد المحاكمة العادلة في التحكيم أحد معايير الاعتراف بالحكم التحكيمي وتنفيذه، كما هو وارد في اتفاقية نيويورك لعام 1958.
خامساً: التوازن في إجراءات التحكيم
يهدف التحكيم إلى تحقيق التوازن بين السرعة في الفصل في المنازعات، والعدالة في الإجراءات والسرية في الجلسات والقرارات والاحكام ولذلك، فإن الإجراءات التحكيمية يجب أن تتسم بقدر عال من السرية والتوازن، بحيث لا تؤدي إلى إخلال بمركز أحد الطرفين أو إلى تعطيل الدعوى بسبب تعنت أحدهما.
وتملك هيئة التحكيم سلطة تقديرية واسعة في إدارة الجلسات، بشرط أن تظل ضمن إطار الموازنة بين الكفاءة الإجرائية وضمانات العدالة والسرعة والسرية واصدار الحكم المنهي للخصومة ضمن المهلة الوقتية المتفق عليها
سادساً: إعطاء الفرصة الكاملة للطرفين
من اهم المبادئ الجوهرية في التحكيم أن يُمنح كل طرف الفرصة الكاملة لتقديم دفاعه، وتقديم الأدلة، والمستندات واستدعاء الشهود وفقا" لما هو متفق عليه في وثيقة المهمة ، والرد على دفوع الخصم وندب الخبراء والمعاينة وتقديم ادلة الاثبات. ويجب ألا يُفهم ذلك على أنه حق مطلق في المماطلة، بل يجب أن يُمارس ضمن الحدود الزمنية المتفق عليها أو التي تحددها هيئة التحكيم وفقًا لمبدأ العدالة.
سابعاً: الالتزام باتفاق الأطراف
يشكل اتفاق الأطراف الأساس القانوني لأي عملية تحكيم. فبموجب مبدأ سلطان الإرادة، يجب على هيئة التحكيم الالتزام بالقواعد الإجرائية والموضوعية التي اتفق عليها الطرفان، سواء أكانت محددة في مشارطة التحكيم او في الجلسة الاجرائية الاولى او في وثيقة المهمة كما اسلفنا أو مستندة إلى قوانين أو قواعد مؤسسات تحكيمية تم الاتفاق على الاخذ بقوانينها
وأي خروج عن هذا الاتفاق قد يؤدي إلى بطلان الإجراءات أو الحكم، ما لم يكن هذا الخروج مبررًا وموافقًا عليه ضمنيًا من الطرفين بعدم الاعتراض ضمن المهلة المحددة بستين يوما" والا اعتبر تنازلا" عن الاعتراض وفقا" لما جاء في نص المادة (8) من قانون التحكيم العماني
ثامناً: الالتزام بالقانون الواجب التطبيق
تلتزم هيئة التحكيم -المحكم - بتطبيق القانون الذي اتفق عليه الطرفان لحسم موضوع النزاع. أما في حال عدم وجود اتفاق، فإنهم يطبقون القانون الذي يرونه أنسب للعلاقة محل النزاع وهذا ما حددته المادة (25) لطرفي التحكيم الاتفاق على الإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم بما في ذلك حقهما في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو مركز تحكيم في سلطنة عمان أو خارجها فإذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق كان لهيئة التحكيم، مع مراعاة أحكام هذا القانون، أن تختار إجراءات التحكيم التي تراها مناسبة.
كما أن الهيئة ملزمة أيضًا بعدم مخالفة النظام العام في الدولة التي يُنفذ فيها الحكم، وهو ما يتطلب منها مراعاة المبادئ الأساسية للعدالة، ومن ضمنها المساواة وحق الدفاع وتكافؤ الفرص بين الاطراف
إن ضمان العدالة الإجرائية في التحكيم ليس ترفًا قانونيًا، بل هو واجبا" وشرطا" جوهريا لحسن سير العملية التحكيمية واجراءاتها ونفاذ أحكامها. فالمساواة، وحق الدفاع، وتكافؤ الفرص، والالتزام باتفاق الأطراف مع الحياد والاستقلالية ، هي جميعها مبادئ تتكامل لضمان محاكمة عادلة تحفظ ثقة المتقاضين في التحكيم، وتعزز من مصداقيته كوسيلة فعالة لحسم النزاعات بالطرق السلمية بعيدا" عن القضاء ليكون مصدرا" اساسيا" لجذب الاستثمار الاجنبي
المحكم ناجي سابق# التحكين # التحكيم التجاري# حق الدفاع # المساوة في التحكيم# تكافؤ الفرص في التحكيم # ضمانات التحكيم #د. ناجي سابق