حصانة المحكم
يُعد المحكم شخصًا طبيعيًا يُسند إليه الفصل في نزاع محدد بناءً على اتفاق الأطراف، خارج نطاق القضاء الرسمي، ويُناط به أداء مهمة ذات طبيعة تعاقدية في نشأتها قضائية في نهايتها ومن هذا المنطلق، يُثار التساؤل حول ما إذا كان المحكم يتمتع بحصانة قانونية تحميه من المساءلة عن الأفعال التي قد يرتكبها أثناء أو بمناسبة مباشرته لمهمته القضائية الاستثنائية الخاصة ، لا سيما إذا تعلقت تلك الأفعال بخطأ جسيم أو تجاوز مقصود من هذا القاضي الخاص الذي يسمى المحكم الفرد او هيئة التحكيم الثلاثية والتي من اهم واجباتهم حسم النزاع بشكل نهائي وفقا" لما اتفق عليه الاطراف .
يشير مفهوم "حصانة المحكم" إلى الحماية القانونية التي تُمنح له من أية ملاحقة مدنية أو جنائية على الأفعال الصادرة منه أثناء مباشرته لمهمته، متى كانت تلك الأفعال ضمن الحدود المرسومة له، ولم تخرج عن إطار السلطة التحكيمية الممنوحة له تعاقديًا.
من الاهمية ان يعرف المحكم واطراف الدعوى على حد سواء ان المحكم محايد ومستقل ولا يوجد اي رابطة تبعية بينه وبين من سماه واختاره محكما" وهو لا يعمل لحسابه ولا يؤتمر بأوامره ولا هو وكيله القانوني وبالتالي غير ملزم بطاعته او التواصل معه او الرد عليه او يتلقى تعليماته ، وكذلك على المحكم ان يلتزم بإحقاق الحق وبالحياد والنزاهة والاستقامةوالتحرر من كافة الدوافع الشخصية والعاطفية في ما ينظره في دعواه التحكيمية مهما كانت الظروف او الضغوط التي تمارس عليه .
اولا": أسباب منح الحصانة للمحكم
تستند فلسفة الحصانة إلى جملة من الاعتبارات العملية والقانونية، منها:
أ. ضمان استقلال المحكم وحياده: فبدون الحصانة، سيكون المحكم مهددًا بدعاوى الكيد والضغط من أحد الأطراف المتضررة من الحكم.
ب. تشجيع الكفاءات على قبول مهمة التحكيم: فالمحكم، خلافًا للقاضي، لا يملك جهازًا إداريًا أو أمنًا وظيفيًا، ما يقتضي حمايته قانونًا لضمان قبوله المهمة بثقة.
ج. تحقيق استقرار وسرعة إجراءات التحكيم: إذ إن التهديد المستمر بالملاحقة القانونية قد يُعطل عملية التحكيم ويفقدها فعاليتها كوسيلة بديلة عن القضاء.
د. الطبيعة التعاقدية للتحكيم: فالاتفاق بين الأطراف على اختيار المحكم يحمل في طياته إقرارًا بقبول سلطته وإجراءاته، ما يبرر بعض الحصانة له.
ثانيا": مقارنة حصانة المحكم بحصانة القاضي
رغم أوجه التشابه بين المحكم والقاضي من حيث الوظيفة القضائية، فإن هناك تمايزًا من حيث طبيعة الحصانة:
المصدر القانوني لحصانة القاضي هو السلطة القضائية التي كفلها الدستور حيت تم تحديد السلطات القضائية والمحاكم ودرجاتها وكيفية تعيين القضاة واختصاصاتهم وحقوقهم وواجباتهم ،وفي المقلب الآخر فإن حصانة المحكم اتفاقية تأتي من الاتفاق الخاص بين طرفي النزاع على حسم موضوع النزاع عبر قاضي خاص مختص وذو استقلالية وحياد ويتمتع بالنزاهة والسمعة الطيبة .
كذلك فإن طبيعة وظيفة القاضي هي وظيفة عامة في الدولة يتقاضى فيها القاضي راتبا" شهريا" له حقوق وعليه محظورات ويتمتع بالتقاعد بعد اكمال السن القانوني في وظيفته التي يتدرج فيها. اما المحكم فطبيعة وظيفته مؤقته وغير دائمة تنتهي بإنتهاء النزاع وصدور الحكم المنهي للخصومة بين الطرفين وهو لا يتقاضى راتب شهري بل يحق له تقاضي اتعاب عن اعماله في الدعوى التحكيمية التي يقوم بنظرها وبالتالي ليس لديه اي تقاعد حيث ينتهي عمله بإنتهاء الدعوى.
ان الحصانة الخاصة بالقاضي هي حصانة مطلقة عن المسؤولية المدنية والجنائية (ضمن وظيفته) اما المحكم فتكون حصانته المدنية نسبية ومقيدة بعدم ارتكاب الخطأ الجسيم ولا يوجد اية حصانة جزائية على اي جرم يصدر منه ، كما ان المحكم يجوز عزله ورده بموجب القانون الواجب التكبيق اذا كان موضوع شك في استقلاليته وحياديته
اما القاضي فيكون تحت رقابة الجهات القضائية والتفتيش القضائي والمجلس الأعلى للقضاء ويجوز رد القاضي او تنحيه وفقا" للقوانين والمراسيم واللوائح التنظيمية الصادرة عن السلطات المختصة.
وعليه، فحصانة القاضي مرتبطة بصفته الوظيفية وتهدف لحماية واستقلال القضاء، أما المحكم فحصانته نسبية مقررة لحماية آلية التحكيم نفسها من التعطيل ولضمان اصدار الحكم المنهي للنزاع ضمن الوقت المحدد وفقا" لاتفاق الاطراف والقانون الواجب التطبيق.
ثالثا" : مسؤولية المحكم عن الخطأ الجسيم
على الرغم من الحصانة التي يتمتع بها المحكم، فإن ارتكابه خطأً جسيمًا يخرجه عن نطاق الحماية القانونية ، ويُعرّضه للمساءلة المدنية، وقد تمتد إلى المسؤولية الجنائية إذا اقترن السلوك بغش أو تدليس أو تزوير أو رشوة او غيرها من الجرالم المعاقب عليها قانونا"
وقد قضت العديد من المحاكم والهيئات التحكيمية الدولية بمساءلة المحكم في حال:
- الانحياز العمدي لأحد الخصوم.
- افشاء السر المهني
- رفض غير مبرر وعدم اعطاءحق الدفاع للاطراف بالمساوة
- تأخير متعمد في إصدار الحكم ضمن المهلة الوقتية المتفق عليها والاضرار بمصالح الاطراف
تجدر الاشارة الى انه قبل اتهام المحكم بكل هذه الاعمال او المخالفات الجسيمة يجب التأكد من صحة الاجراءات والادلة والبراهين ومدى مصداقيتها وفقا" لقانون الاثبات الذي يجب ان يتطابق مع اركان الجريمة الثلاثة :
١- الركن الشرعي : حيث لا جريمة ولا عقوبة بدون نص
٢-الركن المادي: الفعل المادي والنتيجة الجرمية والعلاقة السببية
٣-الركن المعنوي: النية الجرمية والقصد الجرمي
لذلك من الاهمية بمكان عدم الكيدية في اتهام المحكم وضرورة التثبث من الادلة والبراهين التي تثبت الجرم بالفعل المادي وهل تحققت النتيجة الجرمية اضافة الى التحقق من النية والقصد الجرمي للمحكم قبل ادانته جزائيا" او مدنيا" وفقا" للقوانين النرعية الاجراء فضلا" عن ان المحكم هو شخص راشد وحكيم وملم بالتفاصيل المهنية المختصة بالقضية التي ينظرها وبالتالي كل تصرفاته يفترض ان تكون مدروسة وحكيمة ومبنية على القوانين الاجرائية التي تم الاتفاق عليها .
كذلك يجوز للمحكم ان يقوم بالادعاء على اي طرف او جهة قامت بتسبيب الضرر له او اساءة سمعته او التعرض له بما يتوافق مع القانون وذلك لحفظ كرامته ورد اعتباره القانوني والمهني .
رابعا" : معيار الخطأ الجسيم في مسؤولية المحكم
يُقصد بالخطأ الجسيم ذلك الذي لا يرتكبه الشخص العادي في ذات الظروف، ويُعبّر عن استهتار جسيم بواجبات المحكم أو تجاهل واضح للقانون الواجب التطبيق أو لحقوق الدفاع.
ويُفرق الفقه بين:
الخطأ البسيط: وهو ما يقع فيه المحكم بحسن نية ولا يُرتب اي مسؤولية عليه
الخطأ الجسيم: ما يدل على تقصير فادح يتنافى مع الحيطة والحكمة في التصرف القانوني والذي ادى بنتيجة ذلك الى ضرر كبير لأحد الاطراف جراء هذا التقصير والمعيار بذلك هو النتيجة المتعمدة التي قد لحقت بأحد الاطراف من جراء صدور الحكم والنية الجرمية في ذلك فإذا انتفت النتيجة الجرمية او الضرر الجسيم فلا مسؤولية على المحكم مطلقا" وهذا من باب الحصانة الخاصة بعمله لضمان حياديته واستقلاليته من اي ضغوط قد تمارس عليه.
خامسا": كيف يحمي المحكم نفسه من ادعاءات الخصوم
تقتضي حماية المحكم لنفسه من أي اتهام أو دعوى محتملة القيام بكل الاجراءات القانونية والمهنية الصحيحة والالتزام بما طلبه طرفي الدعوى التحكيمية والالتزام بالقانون الواجب التكبيق مع ضرورة الحفاظ على الاستقلالية والحيادية المطلقة كما كان الافصاح بعيدا" عن اي مصالح خاصة وعليه يُنصح القيام بمجموعة من الضمانات الوقائية:
. التمسك بمبدأ الحياد والشفافية والاستقلالية والنزاهة، منذ التعيين وحتى صدور الحكم المنهي للخصومة
. الإفصاح عن أي علاقة سابقة أو حالية او مستجدة بأطراف النزاع
. توثيق جميع المراسلات والتحفظات والمستندات والاوراق الخاصة بالدعوى التحكيمية ومنع تسريبها والحرص على حمايته وسريتها بالتنسيق المباشر مع امانة السر
. عدم إصدار أي حكم دون تمكين الأطراف من حق الدفاع الكامل والمتساوي وان تمون مشتملات الحكم مكتوبة وواضحة وفقا" للقانون مع احترام تنفيذ كافة الاجراءات وفقا" للقانون
. طلب التنحي الذاتي فور إدراك وجود سبب جدي لعدم الحياد او الاستقلالية
. الالتزام بمدة التحكيم المتفق عليها وعدم الإخلال بمواعيد صدور الحكم دون مبرر قانوني يوافق عليه الاطراف
نود التنبيه الى ان القضاء المختص - المحكمة التجارية - محكمة الاستئناف- التي يتم الطعن في حكم التحكيم امامها بالبطلان ليس لها الحق في التدقيق الموضوعي في حكم المحكم ومدى عدالته بل يقتصر عملها في الرقابة الشكلية فقط وبيان اذا كان هناك ما يخالف النظام العام ومدى إلتزام المحكم بالاجراءات القانونية والتأكد من عدم وجود اخطاء جسيمة مرتكبة من قبله محددة حصرا" في القانون الواجب التطبيق تحت عنوان حالات البطلان .
بناء" لكل ما تقدم فإن حصانة المحكم ليست حق له بل هي ضرورة لحماية العدالة البديلة من الكيدية او الابتزاز او الضغوط شريطة ألا تتحول إلى ذريعة للإفلات من المسؤولية في حال ارتكابه جرما" جزائيا" أو اثباث الخطأ الجسيم مقترنا" بسوء النية ووجود القصد الجرمي والنتيجة الجرمية، ولعل الحصانة النسبية هي الأنسب لمنظومة التحكيم، كونها تحقق التوازن بين حماية المحكم من الاذية، وضمان حق المحتكمين في قضاء استثنائي خاص نزيه ومسؤول يحسم النزاع بشكل نهائي
فالتحكيم لا يزدهر إلا في مناخ من الاستقلالية والامان حيث تُحمى فيه كرامة المحكم وحرية عمله ، دون أن يُسمح له بالتمادي في الخطأ أو الغش تحت غطاء الحصانة من المساءلة والاهم من ذلك كله ان لا يتعرض هذا القاضي الخاص - المحكم - للضغوط والترهيب بالملاحقة او الاكراه المادي او المعنوي بعمله او عائلته او باب رزقه او ان يكون عرضة للابتزاز لتغيير حكمه لصالح احد الاطراف .
فالحماية والحصانة ضروريتان لقيام المحكم بعمله القضائي واصدار حكمه بنزاهة وحياديه بما يقتضيه عليه ضميره المهني وارادته الحرة وواجبه الاخلاقي والديني وبما يرضي رب العالمين واحقاق الحق وارساء العدالة ،وليتذكر الجميع من قضاة ومحكمين وضباط عدليين وكل من تخوله وظيفته بتحديد المسؤوليات والحكم على الناس ان يلتزم بإحقاق الحق وتنفيذ العدالة خوفا" من الظلم وان عدالة الله بإنتظاره ليحاسب عن اعماله وافعاله في يوم الحساب .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ فَلَنۡ أَكُونَ ظَهِيرٗا لِّلۡمُجۡرِمِينَ ﴾ [ القصص: 17]
بقلم المستشار الدكتور ناجي سابق # الدكتور ناجي سابق# حصانة المحكم # حماية المحكم # الحصانة والتحكيم # المحكم ناجي سابق# الحصانة القانونية للمحكم