الإطار القانوني لاتفاق التحكيم .
يُمثل اتفاق التحكيم الركيزة الجوهرية التي يقوم عليها نظام التحكيم إذ يُنشئ اختصاصًا قضائيًا استثنائيًا خاصًا، ويتيح للأطراف اختيار بديل عن القضاء العام لتسوية منازعاتهم. وقد أولى المشرع العُماني هذا الاتفاق أهمية بالغة، حيث أفرد له تنظيماً محكماً في المواد من (10) إلى (14) من قانون التحكيم في المنازعات المدنية والتجارية. وفيما يلي تحليل تفصيلي للإطار القانوني المنظم له:
● أولاً: التعريف القانوني وصور اتفاق التحكيم (المادة 10)
1. التعريف القانوني (المادة 10/1):
* يُعرف اتفاق التحكيم بأنه: "الاتفاق الذي يقرر فيه طرفاه الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت أو يمكن أن تنشأ بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة، عقدية كانت أو غير عقدية".
* الاستنتاجات القانونية من التعريف:
* جوهر الاتفاق هو تحديد وسيلة بديلة وحصرية لتسوية النزاع (التحكيم).
* يشمل الاتفاق النزاعات القائمة بالفعل (التي نشأت) وكذلك النزاعات المستقبلية المحتملة (التي يمكن أن تنشأ).
* يستلزم وجود علاقة قانونية أساسية بين الطرفين، سواء أكانت مصدرها عقد (علاقة تعاقدية) أو قانون (علاقة غير تعاقدية كالمسؤولية التقصيرية أو منازعات التجارة الدولية).
2. الصور القانونية لاتفاق التحكيم (المادة 10/2):
* شرط التحكيم (Clause Compromissoire):**
* هو اتفاق يدرج ضمن عقد أصلي (سواء كان تجارياً أو مدنياً) قبل نشوء أي نزاع بين الأطراف.
* يُلزم الأطراف سلفاً بعدم اللجوء إلى القضاء العادي والالتزام بمسار التحكيم عند حدوث نزاع.
* اتفاق التحكيم المستقل (مشارطة التحكيم - Compromis):
* هو اتفاق منفصل ومستقل يتم إبرامه بعد نشوء نزاع محدد بين الأطراف.
* يجوز إبرامه حتى لو كانت الدعوى الأصلية قد رفعت بالفعل أمام المحكمة المختصة، شريطة تحديد موضوع النزاع المراد تحكيمه تحديداً واضحاً في الاتفاق.
* الأهمية القانونية للتمييز: تكمن في توقيت الإبرام وطبيعة الالتزام؛ فشرط التحكيم يفرض التزاماً استباقياً بعدم اللجوء للقضاء، بينما اتفاق التحكيم المستقل يشكل تسوية لاحقة للنزاع القائم.
3. الإحالة إلى وثيقة تتضمن شرط تحكيم (المادة 10/3):
* يُعتبر اتفاقاً على التحكيم صحيحاً ونافذاً
كل إحالة ترد في العقد الأصلي إلى وثيقة أخرى (كاللائحة التنفيذية أو شروط عامة أو عقد نموذجي) تتضمن شرط تحكيم.
* شرط نفاذ الإحالة:
أن تكون الإحالة واضحة وصريحة في اعتبار شرط التحكيم الوارد بالوثيقة المحال إليها جزءاً لا يتجزأ من العقد الأصلي المبرم بين الطرفين.
* الأثر القانوني: تمنح هذه الإحالة شرط التحكيم في الوثيقة المحال إليها نفس القوة الإلزامية التي يتمتع بها لو كان منصوصاً عليه صراحة في العقد الأصلي.
● ثانياً: أهلية الأطراف وحدود موضوع اتفاق التحكيم (المادة 11)
* أهلية إبرام الاتفاق:
* يشترط لقانونية اتفاق التحكيم أن يكون كلا طرفيه متمتعاً بالأهلية القانونية الكاملة اللازمة للتصرف في حقوقه المدنية أو التجارية وقت إبرام الاتفاق.
* أي عائق في الأهلية (قصُر، حَجْر، عدم التمثيل القانوني السليم للشخص الاعتباري) يؤدي إلى بطلان الاتفاق.
* الحدود الموضوعية للتحكيم المسائل غير القابلة للتحكيم :
* يحظر التحكيم جملة وتفصيلاً في المسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانوناً.
* أمثلة رئيسية على سبيل المثال لا الحصر:
* منازعات الأحوال الشخصية: كالزواج، الطلاق، النفقة، النسب، الولاية، الوصاية، الميراث.
* المسائل الجنائية: كدعوى الحق العام، تحديد العقوبة، الجرائم بأنواعها.
* المسائل المتعلقة بالنظام العام أو الآداب: كالمنازعات في شأن الجنسية، مركز الأشخاص، الحقوق التي لا يجوز التصرف فيها قانوناً.
* المبرر القانوني: حمايةً للمصالح العليا للمجتمع (النظام العام) والحقوق التي لا يمكن للأفراد التصرف فيها أو التنازل عنها.
● ثالثاً: الشكلية اللازمة لانعقاد اتفاق التحكيم (المادة 12)
* الشرط الجوهري: يشترط قانوناً أن يكون اتفاق التحكيم محرراً في صورة مكتوبة، وإلا كان باطلاً بطلاناً مطلقاً.
* تفسير مفهوم الكتابة:
* المحرر الموقع: وجود اتفاق مكتوب وموقع عليه من قبل طرفي العلاقة القانونية أو من يفوضانه قانوناً.
* تبادل الوثائق المكتوبة:
يُعد الشكل الكتابي متوفراً إذا تم تبادل الاتفاق أو الاعتراف به عبر وسائل اتصال كتابية تتيح تسجيله وتوثيقه، مثل:
* الخطابات الرسمية (البريد العادي/المسجل).
* البرقيات (التلكس).
* الفاكس.
* البريد الإلكتروني (بما في ذلك التوقيع الإلكتروني الموثوق).
* أي وسيلة إلكترونية أخرى تنشئ محرراً مكتوباً قابلاً للاستدلال به.
* طبيعة شرط الكتابة:
* يُعد شرط الكتابة هنا شرط انعقاد (ركن) لصحة الاتفاق ذاته، وليس مجرد شرط للإثبات.
* الغاية التشريعية: ضمان جدية نية الأطراف في اللجوء للتحكيم، وتوضيح إرادتهم الصريحة في استبعاد اختصاص القضاء العادي، ومنع النزاع حول وجود الاتفاق من الأساس.
● رابعاً: الأثر المترتب على اتفاق التحكيم بالنسبة للقضاء العادي (المادة 13)
* التزام المحكمة بعدم الاختصاص (الدفع بعدم القبول):
* إذا رُفعت دعوى أمام المحكمة المختصة بمنازعة يكون قد تم الاتفاق سلفاً على تحكيمها، وجب على المحكمة أن تقضي بعدم قبول الدعوى.
* شرط نفاذ هذا الأثر:
أن يقدم المدعى عليه دفعاً بعدم قبول الدعوى
استناداً إلى وجود اتفاق التحكيم، ويجب تقديم هذا الدفع قبل إبداء أي دفاع في موضوع الدعوى الأصلية
* استمرارية إجراءات التحكيم:
* مجرد رفع الدعوى أمام القضاء لا يوقف تلقائياً إجراءات التحكيم الجارية ولا يمنع هيئة التحكيم من الاستمرار في الإجراءات أو إصدار حكمها.
* الاستثناء الوحيد: إذا صدر عن المحكمة حكم قضائي نهائي (بات) بقبول الدعوى ورفض الدفع بعدم القبول ( لعدم ثبوت وجود اتفاق تحكيم صحيح)، عندها يتوقف التحكيم لتعارضه مع حكم المحكمة.
* المبدأ المستفاد: يؤكد النص على استقلالية اتفاق التحكيم وإجراءاته عن القضاء العادي، ويعطي الأولوية لإرادة الأطراف ما دام الاتفاق قائماً وصحيحاً.
● خامساً: سلطة طلب التدابير المؤقتة والتحفظية (المادة 14)
* حق الأطراف: يجوز لأي طرف في النزاع الخاضع لاتفاق تحكيم أن يلجأ إلى المحكمة المختصة (وليس هيئة التحكيم) لطلب اتخاذ أي تدابير مؤقتة أو تحفظية يراها ضرورية، تجدر الاشارة الى ان المواد( 24)و (42) قد اعطت الحق لهيئة التحكيم بإتخاذ هذه التدابير بناء لطلب احد الاطراف.
* توقيت اللجوء إلى المحكمة:
* قبل بدء إجراءات التحكيم: لحماية الحقوق خلال الفترة التي تسبق تشكيل هيئة التحكيم.
* أثناء سير إجراءات التحكيم: حتى بعد تشكيل الهيئة، إذا استدعت الظروف ذلك.
* *طبيعة التدابير المطلوبة:
* * تشمل التدابير العاجلة اللازمة للحفاظ على الحقوق أو الأدلة أو الوضع الراهن، مثل:
* الحجز التحفظي على الأموال أو المنقولات أو العقارات.
* منع التصرف في أموال معينة.
* تعيين حارس قضائي.
* إثبات حالة (معاينة).
* أي إجراء وقائي آخر يراه الطرف ضرورياً لعدم ضياع حقه
. العلاقة مع اختصاص هيئة التحكيم:
* لا يُعد هذا اللجوء إلى القضاء تنازلاً عن اتفاق التحكيم أو إخلالاً به.
* يُعتبر تدخلاً داعماً ومكملاً لعملية التحكيم، يهدف إلى ضمان فعالية الحكم التحكيمي عند صدوره.
* تظل هيئة التحكيم مختصة أيضاً بمنح مثل هذه التدابير أثناء نظرها للنزاع، لكن المادة 14 تمنح خياراً إضافياً للأطراف خاصة قبل تشكيل الهيئة أو عند الحاجة لسلطة تنفيذية فورية.
في الخلاصة يُشكل اتفاق التحكيم في التشريع العماني، كما نظمته المواد (10) إلى (14) من قانون التحكيم العماني .
الأساس الإرادي الملزم الذي تقوم عليه شرعية نظام التحكيم واختصاصه. وقد حرص المشرع على تحقيق توازن دقيق بين:
1. احترام إرادة الأطراف في اختيار طريقة فض منازعاتهم.
2. ضمانات صارمة شكلية وإجرائية: (كالكتابة كشرط انعقاد، وتحديد أهلية الأطراف وموضوع النزاع) لحماية مصالح الضعفاء وصون النظام العام.
3. استقلالية عملية التحكيم: عن القضاء العادي مع إقرار دور تكميلي له في مرحلة التدابير الوقتية.
4. الفعالية العملية :من خلال الاعتراف بصور متعددة للاتفاق وتمكين هيئة التحكيم والأطراف من أداء مهامهم دون معوقات قاتونية او اجرائية من اجل حسن سير العملية التحكيمية
وبذلك، يوفر الإطار القانوني العماني بيئة قضائية آمنة وواضحة لتسوية المنازعات عبر التحكيم، تعزز جاذبية سلطنة عُمان كمركز إقليمي لهذه الوسيلة البديلة كما وردت في رؤية عمان 2040
المستشار الدكتور ناجي سابق # المحكم ناجي سابق# اتفاق التحكيم # شرك التحكيم # مشارطة التحكيم # التحكيم